سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قلت: {عجباً} خبر كان، واسمها: {أن أوحينا}، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس، أو كان تامة، واللام متعلقة بعجباً، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم.
قال في المغني: المصدر الذي ليس في تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه، على أن السعد قال في المطوّل: إن معمول المصدر إذا كان ظرفاً أو شبهة، الأظهر أنه جائز التقديم، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} [الصافات: 102]، {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] مثل هذا كثير في الكلام، وليس كل ما أول بشيء حكمُه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة الفعل؛ لأن له شأناً ليس لغيره؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه؛ لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المجتبى المختار {تلك} الآيات التي تنزل عليك هي {آياتُ الكتاب الحكيم}، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شيء بكتاب آخر بعده، أو كلام حكيم. {أَكَانَ للناس} أي: كفار قريش وغيرهم {عَجَباً أن أوحينا إلى رجل منهم} ولم يكن من عظمائهم؟ والاستفهام للإنكار، والرد على من استبعد النبوة، أو تعجب من أن يبعث الله رجلاً من وسط الناس.
قيل: كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب. وهذا من فرط حماقتهم، وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة.
هذا.. وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقْصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلا في المال، وخفةُ الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك أي خفافاً من المال وقيل: تعجبوا من أنه بشراً رسولاً، كما سبق في سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسَّر الوحي المذكور فقال: {أن أنذر الناس} أي: أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي: خوفهم من غضب ربهم، {وبشّر الذين آمنوا}، عمم الإنذار، ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به، قاله البيضاوي.
أي: بشر المؤمنون بأنَّ {لهم قَدَمَ صدْقٍ عند ربهم} أي: سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدَماً لأن السبق يكون بها، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعْطى باليد، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي: أي: عمل صالح قدموه، وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. اهـ. وقال ابن عطية: والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول: صدقٍ ورجل سوْءٍ. اهـ.
{قال الكافرون إنَّ هذا} الكتاب، أو ما جاء به الرسول، {لسحر مبين} أي: بيَّن ظاهر، وقرأ ابن كثير والكوفيون: {لساحر}، على أن الإشارة إلى الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة، معجزة لهم عن المعارضة، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيراً لما ذكره قبلُ من تعجبهم، أويكون مستأنفاً.
الإشارة: تعجبُ الناس من أهل الخصوصية سُنة ماضية، فكما خفي عن أعين الكفار سر النبوة، خفي عن أعين الخفافيش سر الخصوصية، فلا يطلع عليها إلا من سبق له قدم صدق عند ربه، فسبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية؛ فلم يدل عليها إلا من أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.
قال في لطائف المنن: فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول: معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب؟، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {إن ربكم} الذي يستحق العبادة وحده هو {اللهُ} الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود، وبه رد على من أنكر النبوة، كأنه يقول: إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين؟ ثم فصَّل ذلك فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} التي هي أصول الكائنات، {في} مقدار {ستةِ أيام} من أيام الدنيا، ولم يكن حينئذٍ ليل ولا نهار، والجمهور: أن ابتداء الخلق يوم الأحد، وفي حديث مسلم: يوم السبت، وأنه خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. {ثم استوى على العرش} استواء يليق به، كاستواء الملك على سريره ليُدير أمر مملكته، ولذلك رتب عليه: {يُدَبِّر الأمرَ}، وقد تقدم الكلام عليه في الأعراف.
قال البيضاوي: يُدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته، وسبقت به كلمته، بتحريك أفلاكها، وتهيئ أسبابها، والتدبير: النظر في عواقب الأمور لتجيء محمودة العاقبة. اهـ.
{ما من شفيع} تُقبل شفاعته {إلا من بعد إِذْنِه} له في الشفاعة، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له، كالأنبياء والعلماء الأتقياء. {ذلكم الله} أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو {الله ربكم} لا غير؛ إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك، {فاعبدوه}: أفردوه بالعبادة {أفلا تذكرون} أي: تتفكرون أدنى تفكر، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدون من الأصنام.
{إليه مرجعكم} بالبعث {جميعاً} فيجازيكم على أعمالكم، ويعاقبكم على شرككم، {وعد الله حقاً}. مصدر مؤكد لنفسه؛ لأن قوله: {إليه مرجعكم} وعدٌ من الله. {إنه يبدأ الخلق} بإظهاره في الدنيا {ثم يُعيده} بعد إهلاكه في الآخرة. {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات}، تعليل للعودة؛ وهي البعثة، وقوله: {بالقسط} أي: بالعدل؛ بأن يعدل في جزائهم، فلا يظلم مثقال ذرة، أو بعدلهم وقيامهم على العمل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم. وهو الأوجه لمقابلة قوله: {والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم} بسبب كفرهم وشركهم الذي هو الظلم العظيم لكنه غيَّر النظم للمبالغة في استحقاقهم العذاب والتنْبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، وأما العقاب فإنما هو الواقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة، فإنه إنما ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشوم أفعالهم.
والآية كالدليل لقوله: {إليه مرجعكم جميعاً}، فإنَّه لمَّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ: {أنه يبدأ} بالفتح، أي: لأنه، ويجوز أن يكون منصوباً بما نصب {وعد الله}.
قاله البيضاوي.
الإشارة: تقدم بعض إشارة هذه الآية في الأعراف، وقال الورتجبي هنا: جعل العرش مرآة تجلي قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله: {ثم استوى...} الآية، ثم قال: ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله: {فاعبدوه}. وقال القشيري: {ذلكم الله ربكم} تعريف، وقوله: {فاعبدوه} تكليف، فحصولُ التعريف بتحقيقه، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه. اهـ. وقال في قوله: {إليه مرجعكم جميعاً}: الرجوع يقتضي ابتداء، والأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند مُحبيِّه وذويه، وأنشدوا:
أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً *** أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا
. اهـ.
وفي الإحياء: كل من نسي الله أنساه لا محالة نفسه، ونزل إلى رتبة البهائم، وترك الترقي إلى أُفق الملأ الأعلى، وخان في الأمانة التي أودعها له تعالى، وأنعم بها عليه، وكان كافراً لنعمته، ومتعرضاً لنقمته؛ فإن البهيمة تتخلص بالموت، وأما هذا فعنده أمانة سترجعُ لا محالة إلى مُودعها، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها، وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة، وإنما هبطت إلى هذا القالب الفاني وغربت فيه، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها، وتعود إلى بارئها وخالقها، إما مظلمة مُنكسة، وإما زاهرة مشرقة، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة؛ إذ المرجع ومصير الكل إليه، إلا أنها ناكسة رؤوسها عن جهة أعلى عليين، إلى جهة أسفل سافلين، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] فبيَّن أنهم عند ربهم منكسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم إلى اقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله تعالى فيمن حَرمَهُ توفيقه، ولم يهده طريقه فنعوذ بالله من الضلال والنزول في منازل الجُهال. اهـ.
قلت: ظاهر كلامه: أن الروح لا ترجع إلى وطنها وتتصل بحضرة ربها إلا بعد خراب هذا البدن، والحق إنها ترجع لأصلها، وتتصل بحضرة ربها مع قيام هذا البدن؛ إذا كمل تطهيرها وتمت تصفيتها من بقايا الحس، وانقطع عنها علائق هذا العالم الجسماني، فتتصل حينئذٍ بالعالم الروحاني، مع قيام العالم الجسماني، كما هو مقرر عند أهل التحقيق، والله تعالى أعلم.


قلت: «ضياء»: مفعول ثان، أي: ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في {قدره} للشمس والقمر، كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 26]، أو للقمر فقط.
يقول الحق جل جلاله: {هو الذي جعل الشمس ضياء} أي: ذات ضوء وإشراق أصلي، {والقمرَ نوراً} أي: ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور. {وقدَّره منازلَ} أي: قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله: {لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ} أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم: {ما خلق اللَّهُ ذلك} الذي تقدم من أنواع المخلوقات {إلا بالحق} أي: ملتبساً بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليُعرف فيها، فما نُصب الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الحق الذي خلق الله به كل شيء كلمة {كن}. قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق وَلَهُ الملك} [الأنعام: 73]. اهـ. وهو بعيد هنا.
{نُفَصِّلُ الآياتِ لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيَّن وجه الاعتبار فقال: {إن في اختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو بالزيادة والنقصان، {وما خلق اللهُ في السموات والأرض} من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات، {لآياتٍ} دالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، {لقوم يتقون} الله، ويخشون العواقب، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، بخلاف المنهمكين في الغفلة والمعاصي، الذين أشار إليهم بقوله: {إن الذين لا يرجون لقاءَنا} أي: لا يتوقعونه، أو: لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، {ورَضُوا بالحياة الدنيا}: قنعوا بها بدلاً من الآخرة لغفلتهم عنها، {واطمأنوا بها} أي: سكنوا إليها مقْصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها. {والذين هم عن آياتنا} المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا، {غافلون}: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لانهماكهم في الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي: والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين: من أنكر البعث ولم يُرد إلاّ الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له. اهـ.
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} أي: بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية: وفي هذه اللفظة رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. اهـ.
الإشارة: هو الذي جعل شمس العِيَان مشرقة في قلوب أهل العرفان، لا غروب لها مدى الأزمان، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نوراً يهتدي به إلى طريق الوصول إلى العيان، وقدَّر السير به منازل وهي مقامات اليقين ومنازل السائرين ينزلون فيها مقاماً مقاماً إلى صريح المعرفة، وهي التوبة والخوف، والرجاء والورع، والزهد والصبر، والشكر والرضى والتسليم والمحبة، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ليتوصل به إلى الحق. إن في اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير، لقوم يتّقون السوى، أو شواغل الحس.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8